الطرق الجديدة لتدريس الجغرافيا بالتعليم الثانوي[1]
Voies nouvelles pour l'enseignement de la géographie dans le secondaire
Bernadette MERENNE-SCHOUMAKER
ترجمة: مولاي المصطفى البرجاوي
هذه المقالة المترجمة، تحاول أن تَنبِش في أعماق المشكِلة الديداكتيكية للجغرافيا، التي من المفروض أن تلبَس لَبوسًا علميًّا ومنهجيًّا وتطبيقيًّا، باتت من المناهج الدراسية الأكثر تهميشًا، إنْ على مستوى المتعلمين الذي ينظرون إليها على أنها مادة تعتمد الحفظ والاستظهار والغش في الامتحانات؛ نظرًا لكثرة المعلومات والمعارف النظرية المجردة، أو على مستوى الطرق التدريسية التي تعتمد الطريقة العموديَّة من المدرس إلى المتعلم باعتماد طريقة إلقائية إملائية للملخصات، أضف إلى ذلك الطامَّة الكُبرى المرتبطة بالفصل الدراسي الذي تحوَّل إلى أشبه ما يكون بتجمُّع بشري ضخم (أكثر من 40 تلميذًا) تقلُّ فيه الرغبة في التعلم، وتسود فيه كل أشكال الشغب والتشويش إلا من رحم الله، وسعيًا منِّي إلى إزالة هذه الصورة القاتمة والسوداويَّة عن التعليم عامَّة، وتعليم الجغرافيا خاصَّة، نَعرض لكم ترجمةً لمقالة عِلميَّة من إنجاز الأستاذة البلجيكية (MERENNE-SCHOUMAKER) المتخصصة في ديداكتيك العلوم الجغرافية في مدينة لييج بجامعة لييج البلجيكية.
مُلخص: تقترح المقالة الخطوط العريضة لتجديد تدريس الجغرافيا في التعليم الثانوي، وذلك بالتركيز على ما يلي:• الأهداف: التربية الجغرافية للجميع؛ يعني القدرة على معرفة الأبعاد المجاليَّة للمُشكل، بمقاييس مختلفة.
• المضامين: التي ينبغي أن تتمَحور حول الجغرافيا العامة، التي تبحث في فَهم المجالات الجغرافية بمختلف أبعادها.
• منهجية التعليم/ التدريس: حيث تقترح منهجية مُتناسقة ومُتماسكة تعتمد استيعاب الحقائق، والمنهج العلمي.
يَعرف تدريس الجغرافيا في الكثير من الدول أزمة، لماذا الجغرافيا؟ وهل تمس فقط الجغرافيا؟ ماذا يمكن فعله لتجاوز هذه الأزمة؟
1- أزمة تدريس الجغرافيا:
أصبح تَشخيص وتحديد المشاكِل الحقيقية التي تُواجه تدريس الجغرافيا، همًّا مشتركًا بين بلدان عديدة، سواء في أوربا أو أمريكا الشَّمالية، في الشمال والجنوب؛ إذ تظهر هذه الصعوبات بشكل جلي في المرحلة الثانوية.
في حقيقة الأمر، هذه الأزمة في تدريس الجغرافيا نتاج واقع مزدوج - أزمةٌ عامة تمس مختلف المواد الدراسية، وأخرى خاصة بالجغرافيا.
كما أن أزمة تدريس الجغرافيا، ليست أزمة ظرفية، بل أزمة هيكلية - بِنْيَويَّة؛ بسبب المشاكل المتعدِّدة التي تعرفها المادَّة نفسها.
على ضوء ما سبق من الصُّعوبات والمُعيقات الأساسية التي تحدُّ من تطوير تجديد تدريس الجُغرافيا، نذكر بعضَها:
• هُوِيَّة المادَّة: إذ يَظل التَّمثُّل الطاغي عن الجغرافيا أنها عِلم مَرِن، ومادة للشحن والحفظ والاستظهار، ومادة تعليميَّة ثانويَّة في الاستعمالات الواقعية - الوظيفية، كما أن طابعها الشُّمولي، يجعلها عُرضةً للانتقاد من طرف مجموعة من المراقبين التربويِّين.
• منهاج الجغرافيا: كما أن الأزمة التي تمس الجغرافيا، مرتبطة أيضًا بمنهاج الجغرافيا المقترح للمتعلمين، التي يطغى عليها طابع الموسوعية، والمفاهيم النَّظرية المجردة، غير المرتبطة بواقع المتعلم؛ مما يجعله يعيش انفصامًا تربويًّا بين النظري والواقع، وبين التوجه البيداغوجي الجديد المبني على المقاربة بالكفايات.
• الزمن البيداغوجي: الحيِّز الزَّمني غالبًا المخصَّص لتدريس الجغرافيا، تحت ضغط البرامج المُكثَّفة - غيرُ كافٍ، فبالأحرى التفكير في تطبيقات داخل القسم وخارجه؛ مما يجعل المدرس يجد صعوبة في جذب اهتمام المتعلمين إلى المادة الدراسية.
• الاكتظاظ في الأقسام: عددهم في الفصل الدراسي بين 20 و30 تلميذًا، لا يُسهل تطبيق بيداغوجيا فارقية (وَفق المدرسة البلجيكية حسب الباحثة SCHOUMAKER، لكن في المغرب المشكِلة أعوصُ وأعقد؛ إذ يتراوَح عدد التَّلاميذ في الفصل الدراسي بين 40 و45 متعلمًا)؛ مما يجعل تجريب أي مقاربة بيداغوجية ضربًا من الخيال!
• الأساتذة: غالبًا ما يَفقدون حماسَهم؛ نظرًا لظُّروف العمل الصَّعبة (الشَّغَب داخل الفصول الدراسية، غياب التكوينات المستمرة لتطوير تدريس الجغرافيا...)، والافتقار إلى قاعة خاصَّة لتدريس الجغرافيا، كما هو الشأن بالنسبة لباقي المواد العلميَّة (الفيزياء، والتكنولوجيا).
2- اقتراحات للتجديد:
كيف نتصور مُستقبل تدريس الجغرافيا على مستوى الأهداف الجديدة، والمَضامين الجديدة، والمنهجيَّة الجديدة؟
الأهداف الجديدة:
التَّربية فعل مُستقبلي- استشرافي، في عالم تتكاثر فيه المعارف بلا توقُّف، كما تتنوَّع، من هنا يمكن القولُ: الأولى التَّمكُّن والإلمام بجميع المعارف.
التدريس ينبغي أن يدفع المتعلمين للتعلم الذَّاتي؛ من خلال التركيز على المكتسبات الأساسية المرتبطة بالمعارف والمهارات والمواقف، ومن بين المُكْتسَبات الأساسيَّة في الجغرافية: معرفة التفكير الجغرافي أو معرفة الأبعاد المجاليَّة للمُشكِلة بمقاييس ومستويات مختلفة (Y. Lacoste, 1986).
فدَرْس الجغرافيا في الثانوي، ينبغي أن يركز على "التربية الجغرافية" من خلال فرض اكتساب المعارف الجغرافية (معرفة الميكانيزمات الكبرى لوظيفية المجال الجغرافي)، والمهارات (يعني التمكُّن من استعمال الأدوات الجغرافية، المنهجية الجغرافية، تِقْنية ومنهجية تحليل مشكلة، خاصة معرفة قراءة ورسم الخرائط).
فالهدف من هذه التربية الجغرافية تهيئة المتعلم للانخراط في الحياة: التنقل، السفر، المغامرة، فَهم والتمكن من مختلف وسائل الإعلام والمعلومات، إعداد مواطن صالح ومسؤول، التفاعل مع البيئة.
والهدف أيضًا التعلم الذاتي في الجغرافيا؛ لأن اكتساب المعارف والمهارات الجغرافية يُمكِّن المتعلِّم من توظيفها عمليًّا في قطاعات يومية مختلفة (جمع المعلومات، ربط وتحليل الظواهر الجغرافية - البيئية، معرفة قياس تأثير ظاهرةٍ ما، تقديم الحلول للظاهرة المدروسة...).
المضامين الجديدة:
إن الجغرافيا التي يحتاجها المتعلم اليوم، هي جغرافيا مفتوحة على العالم، على المجالات الحياتية، التي يُمكن من خلالها تطبيق ما تمَّ اكتسابه في الفصول الدراسية.
إذ يمكن التمييز بين نوعين من المجالات الجغرافية (انظر الشكل رقم 1)
- مجالات جغرافية محلية: مجالات تجريبية - تطبيقية، يمكن وصفُها بالمجال المعيش والمجال المستقبل.
ب- مجالات جُغرافية عالمية: مِن خلال تغْيير السُّلَّم من المحلي إلى العالمي لمقاربة ومعالجة قضايا لها صِلة وثيقةٌ بما هو محلي مِن قَبيل المشاكل البيئية، والهِجرة الدوليَّة، والمشاكل الجيوسياسية.
في دَرس الجغرافيا، ينبغي أن تعطى الأولويَّة للجغرافيا العامة، التي تدمج مختلف المكونات لمعالجة مشكلة جغرافية معينة(P. Pinchemel, 1982)، سواء تعلق الأمر بالمعطيات الطبيعية أو البشرية أو الاقتصادية والثقافية، يعني استحضار مختلف المكوِّنات لمُقاربة ظاهرة في أبعادها المجالية المختلفة.
واختيار برامج دراسيَّة لا ينبغي أن تقتصر على عرض المادة المعرفية، أو إغناء الرَّصيد المعرفي للمُتعلم في مادة الجغرافيا، بل يتوخى ربط المتعلم بالحياة من خلال نماذج تطبيقية (الرَّبط بين الشِّقِّ النَّظري والشِّق التطبيقي) للمادة.
• طُرق جديدة للتدريس:
إذا كان الهدف هو التعلُّم الذاتي/ أو تعَلُّم التَّعلم، بجعل المُتعلِّم مستقلاًّ بذاته (التعلم مدى الحياة)، يتحتَّم اعتماد مقاربة بيداغوجية وطريقية ديداكتيكية مُتناسقة ومتكاملة، تعتمد منهجيَّة أكثر مُلاءمة بين النظري والتطبيقي (بيداغوجية الملاءمة)، ويمر ذلك عبر أربع مراحل:
أ- مرحلة الاكتشاف.
ب- مرحلة جمع المُعطَيات والوثائق.
ت- مرحلة التحليل والتفسير.
ث- مرحلة التَّطبيق الميداني.
وكلُّ مرحلة مختلفة عن الأخرى، لكن في تناسق وانسجام، وفيما يخصُّ دور الأُستاذ، فيتجلى في المَهام التالية: التنشيط، التنسيق، تقدير خبرة (خبير)، مُربٍّ.
هذه المنهجية تهيئ دُون شكٍّ للعمل ولتحمُّل المسؤولية من خلال دَمج التلميذ المراهق في تَكوينه الذاتي.
كما أن هذه المنهجية تفرض تحديد المُشكلة وطرح فرضيَّات واحتمالات ثم مُطابقة النتائج بالحقائق.
من جهة أُخرى، هذه المنهجية تدخل في إطار البيداغوجية الفاعلة التي تتمحور وتركِّز على المتعلِّم، مع أخذها بعين الاعتبار المُتعة في التعلُّم، والمتعة في التَّكوين، والمُتعة في الانخراط.
هذا الاختيار يغير من دور الأستاذ (المدرس) والعلاقة بينه وبين المتعلِّم؛ فهو يحول الديداكتيك (التَّدريس) إلى إستراتيجيَّة عمل ضرورية للوصول إلى حلول مناسبة وفعَّالة حتى نحد من الأزمة الظرفية والهيكلية - البِنْيَويَّة لنشر المعرفة الجغرافية (C. Daudel, 1990, p. 227).
ختامًا:
الأزمة الظرفية والهيكلية التي يعرفها تدريس الجغرافيا، لا يمكن تجاوزها، إلا بتجديد عميق لديداكتيكها وزرع الرَّغبة في المتعلم للتعلم، كما أن هذا التغيير يفرض تجديد أهدافها ومضامينها ومنهجيتها الديداكتيكية
المراجع:
DAUDEL C., 1990. Les fondements de la recherche en didactique de la géographie, coll. Exploration Recherches en Sciences de l'Education, P. Lang,Berne.
GFEEPRO, 1976. La géographie, un outil de formation,Bruxelles.
• FEGEPRO, 1986. La géographie : bonjour le monde,Bruxelles.
• LACOSTE Y., 1980. Les différents niveaux d'analyse du raisonnement géographique, Hérodote, n° 18, p. 3-15.
• LACOSTE Y., 1986. Le savoir-penser l'espace, GUILLAUME M., 1986, L'état des Sciences Sociales en France, La Découverte, Paris, p. 88-92.
• MERENNE-SCHOUMAKER B., 1985. Savoir penser l'espace. Pour un renouveau conceptuel et méthodologique de l'enseignement de la géographie dans le secondaire, L'Information Géographique, n°49, p. 151-160.
• MERENNE-SCHOUMAKER B., 1986. Eléments de didactique de la géographie, GEO, n° 19 (numéro spécial).
• MERENNE-SCHOUMAKER B., 1987. Enseigner la géographie aujourd'hui. Enseigner la Géographie dans les Pays Francophones, Actes du Colloque de Géographie de Limoges, Trames, p. 46-53.
• PINCHEMEL P., 1982. De la géographie éclatée à une géographie recentrée, Tijdschrift voor Economische en Sociale Geografie, n° 73/6, p. 362-369
المصدر: لتحميل المقالة تجدونها على الرابط التالي:
http://www.bsglg.be/uploads/BSGLg-1993-28-03_MERENNE--.pdf
[1] قد أدخلت بعض التعديلات على المقالة؛ لتتناسب والتوجهَ البيداغوجي الجديد المبني على المقاربة بالكفايات، والوظيفية في التدريس، التي تتوخى ربط المتعلم - في ضوء تعلم مادة الجغرافيا - مع محيطه السوسيو - اقتصادي.
تعليقات
إرسال تعليق